الرد العلمي على تصريح وزير الأوقاف حول “الفوائد البنكية” وتحريف “مفهوم الربا”

د.رشيد بن كيران

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد،

ففي لقاء بين مؤسسات رسمية غطته جريدة العمق تعرض وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد توقيف في كلمته لموضوع الفوائد البنكية وقرر أن “التعامل المالي بالفوائد على القروض يتعلق بالتشرّع، أي بالتعاقد والتراضي الكفيل بالعدل، أكثر مما يتعلق بالتعبّد“، وقد سبق له أن صرح في إحدى الدروس الحسنية الماضية بأن الفوائد البنكية المقننة لا تدخل في باب الربا المحرم، مستأنسا بكلام يعود الى فليسوف أرسطو وقد أعاد ذكره في هذا اللقاء كذلك، واستشهد أيضا برؤية تحليلية نسبت إلى المفكر الباكستاني فضل الرحمن الذي ميّز فيها بين الربا الجاهلي المحرم شرعا، وبين الفوائد البنكية المعاصرة التي عدها -بحسب فهمه- معاملات تعاقدية جائزة.

◆ وهذا التصريح والتقرير ـ بمجموع دلالاتهما ـ يستدعي ردا علميا نبيّن ما فيهما من تهافت منهجي، وتجاوز فقهي، وانحراف عن الأصول الكلية التي قررها العلماء في باب الربا خاصة، وفي فقه المعاملات عامة. وفيما يلي بيان ذلك:

أولا: الربا في الشريعة حكم شرعي من الله لم يعلق على التراضي

تحريم الربا في الشريعة الإسلامية حكم قطعي ثبت بالنصوص الصريحة في الكتاب والسنة، ومحل إجماع بين الأمة سلفا وخلفا لم يخرق هذا الاتفاق إلا شذاذ القوم الذين لا عبرة بكلامهم ، ولا يخفى أن هذه النصوص لم تعلق التحريم على وقوع الظلم أو الاستغلال فقط، بل جاءت على وجه الزجر عن أصل المعاملة الربوية، بغض النظر عن رضا الأطراف أو تواطئهم على ذلك، قال تعالى:

{ٱلَّذِینَ یَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰا۟ لَا یَقُومُونَ إِلَّا كَمَا یَقُومُ ٱلَّذِی یَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ} [البقرة].

{ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوۤا۟ إِنَّمَا ٱلۡبَیۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰا۟ۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَیۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟ۚ} [البقرة].

{یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَذَرُوا۟ مَا بَقِیَ مِنَ ٱلرِّبَوٰۤا۟ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ} [البقرة].

وهذه الآيات -كما هو واضح- جاءت بأسلوب تحريمي قاطع، لا يحتمل التأويلات المستحدثة التي تجعل النصوص المحرمة للربا ظنية الدلالة قابلة للتجاوز في العقود المالية المتعلقة بتعاملات الأبناك.

إن محاولة إلحاق الفوائد البنكية بما هو جائز شرعا من العقود بالتعليل بكونها “تعاقدية رضائية تضبط بالعدل”، فيه قلبٌ للميزان الفقهي، وتقديم للاجتهاد على النص، وهو مما لا يسوغ في موضع عُدّ من الكبائر، وورد فيه الوعيد الشديد.

ثانيا: التراضي لا يبيح ما حرمه الله، ولا يسقط الأحكام القطعية

من الأصول المحكمة في فقه المعاملات أن التراضي شرط لصحة العقود، لكنه ليس كافيا لجعلها مشروعة؛ إذ لا بد من خلوها من المحظورات الشرعية. وهذا ما قرره العلماء ومنهم الإمام الشاطبي في الموافقات، حيث بيّن أن رضا المتعاقدين لا يرفع المفسدة المقصودة بالنهي الشرعي، وإنما التراضي معتبر من جهة كونه كاشفا عن رغبة الطرفين ولا إكراه عليهما، لا من جهة كونه باعثا على شرعية العقد. ومن ثم، فإن رضا المقترض بأداء الفوائد لا يغير من حقيقة العقد الربوي شيئا، ولا يخرجه من وصف التحريم. شأنه شأن العلاقة الجنسية الرضائية خارج إطار الزواج، فرضا الطرفين لا يغير من كونه زنا عند الله عز وجل واستحقاقه لوصف التحريم.

وقد قرر الفقهاء هذا المعنى بقولهم “كل قرض جر نفعًا فهو ربا“. وهو أصل تلقته المذاهب الأربعة بالقبول، وبه يعرف أن الفائدة المشروطة مسبقا برضا الطرفين، ولو كانت بنسبة يسيرة، لا تخرج عن مفهوم الربا المحرم، ولم يلتفت الفقهاء الى مسألة رضا المتعاقدين فقط.

ثالثًا: الفوائد البنكية المعاصرة من الربا الجاهلي

يحاول البعض التفريق بين الفوائد البنكية وبين الربا الجاهلي، مدعين أن هذا الأخير كان فاحشا مضاعفا، أما الأول فهو مضبوط مقنن، وقد دندن وزير الأوقاف حول هذه الشبهة. لكن هذا التفريق مردود؛ لأن الشريعة لم تعلق التحريم على حجم الربا أو فداحته، بل على مجرد الاشتراط على المقترض أن يرد مالا زائدا مقابل الأجل، سواء أكان ذلك مضاعفة على أصل الدين أو نسبة محددة، لأن كليهما يندرج تحت قوله تعالى: {وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَ ٰ⁠لِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ} [البقرة:279].

والفائدة البنكية المحددة بنسبة مئوية على أصل القرض تمثل صورة صريحة من الربا، حيث يجتمع فيها شرط الزيادة، وأجل السداد، دون أن يكون للمقرض عمل أو مخاطرة تبرر هذه الزيادة.

وهذا عين الربا المجمع على تحريمه. وممن نقل هذا الإجماع:

▪︎ ابن المنذر، قال: “وأجمعوا على أن المسلف إذا شرط عُشْر السلف هدية أو زيادة، فأسلفه على ذلك، أن أخذه الزيادة ربا”. كتاب الإجماع .

▪︎ ابن عبد البر المالكي، قال: “أجمعوا على أن من أقرض قرضا ثوبا أو غيره رجلا وشرط عليه أن يرده إليه بعد مدة ثوبين من جنسه أو ثوبا مثله في صفته وزيادة شيء من الأشياء كان ذلك ربا بإجماع”. الاستذكار.

▪︎ وقال أيضا: “كل زيادة من عين أو منفعة يشترطها المسلف على المستسلف فهي ربا لا خلاف في ذلك” . الاستذكار.

▪︎ الإمام القرطبي حيث قال: “وأجمع المسلمون نقلا عن نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم- أن اشتراط الزيادة في السلف ربا”. التفسير.

▪︎ ابن القطان الفاسي: “وأجمعوا أن المسلف إذا شرط عند السلف هدية أو زيادة فأسلفه على ذلك أن أخذه الزيادة على ذلك ربا” الإقناع في مسائل الإجماع.

◆ فانظروا الى هذه الإجماعات المنقولة من كبار علماء الأمة وعدولها الثقات التي تقرر أن تحريم الربا كثيره أو قليله سواء في الحكم، اقترن برضا الطرفين أو لم يقترن. والإجماع على حكم معين مما جاء في ذكره في القرآن والسنة يعد دليلا قطعيا لا مرية فيه، لم يخالف في ذلك إلا جاهل أو أناني مغرور.

وتحريم الفوائد البنكية هو ما صرّح به أيضا مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي، وكذا هيئة كبار العلماء في السعودية، ومؤتمر الأزهر الشريف، وغيرها من الهيئات العلمية التي نصت صراحة على أن الفوائد البنكية هي من الربا المحرم الذي لا يجوز التعامل به. بل المجلس العلمي الأعلى لم يخرج عن هذا التصريح المجمع عليها.

رابعا: المفكر فضل الرحمن الباكستاني ومنهجه في تأويل النصوص

استشهاد الوزير برؤية المفكر فضل الرحمن في تبرير إباحة الفوائد البنكية يدل على تأثره برؤية فكرية خارج المنهج الفقهي الأصولي المعتبر في الأمة. ففضل الرحمن، رغم اشتغاله بالفكر الإسلامي، تبنى منهجا تأويليا أقرب إلى القراءة التاريخانية للنصوص الشرعية، حيث يفرغ النص من دلالاته الظاهرة ويربطه بسياق النزول فقط، ثم يفتح باب التأويل الواسع لتكييف الأحكام بحسب المتغيرات الحديثة، ولو أدى ذلك إلى مصادمة الإجماع، أو نسف المنظومة الفقهية. وقد رفض علماء باكستان وغيرهم كثير من مقولاته، واعتُبر منهجه دخيلا على العلم الشرعي، وتغريبا لمقاصد الشريعة.

خامسا: خطورة صدور هذا التصريح عن جهة دينية رسمية

حين يصدر هذا النوع من التصريحات أو التأويلات من قبل شخصية رسمية تتولى إدارة الشأن الديني، على رأس وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وله اليد الطولى في مجلس العلمي الأعلى، فإن لذلك تبعات خطيرة، منها:

– تمييع مفاهيم الحلال والحرام في وعي الناس.

– التشويش على ثوابت الأمة، خاصة في مسائل مجمع عليها كتحريم الربا.

– تقديم دعم رمزي وشرعي لأنظمة الربا في المصارف، مقابل تهميش البدائل الإسلامية الناشئة.

وقد كان المنتظر من الوزارة أن تحتضن فقها إصلاحيا يربط الأمة بتراثها، ويستثمر أدوات الاجتهاد في تطوير البدائل المالية الشرعية، لا أن تستسلم لمقولات التغريب والتحوير.

الخاتمة:
إن الربا من المحرمات القطعية التي لا تقبل التأويل ولا التبديل، وتعليقها بالتراضي أو التعاقد أو العدالة المفترضة أو المصلحة الوهمية لا يغير من حكمها الشرعي شيئا. وإن التصريحات المبيحة للفوائد البنكية تحت أي مسمى هي تفلت من الأصول الفقهية المقررة، وتهديد لاستقرار الوعي الديني، وانخراط في موجة عقلانية مغالية تسعى إلى إعادة تشكيل الشريعة على مقاس الواقع، بدل تشكيل الواقع على هدي الشريعة.

والله من وراء القصد، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

من موقع هوية بريس

Categories:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *